(65 - 86 هـ/ 684- 705م )
كان الأمويون عندما عقدوا "مؤتمر الجابية" لمبايعة مرْوان بن الحكم قد
اتفقوا على أن يخلفه: "خالد بن يزيد بن معاوية" ثم "سعيد بن العاص" من
بعده. "
غير أن "مروان بن الحكم" نقض ذلك العهد وعهد بالخلافة لابنه "عبد الملك"
ومن بعده ابنه " عبد العزيز" وراح يصرف الأنظار عن "خالد بن يزيد" الذى
كان شابّا محدود الخبرات فى الإدارة.. بما أوتى من وسائل، ورغم ما فى ذلك
من إيثار لابنه ونقض لعهده فإنه كان خيرًا لاستقرار الدولة وكان خيرًا
للإسلام والمسلمين.
وباتت الدولة الإسلامية الموحدة تتقاسمها خلافتان:
الأولى: عليها عبد الله بن الزبير وتضم الحجاز والعراق.
أما الثانية: فيتولاها عبد الملك بن مروان الذى تولى عقب وفاة أبيه، ولم تعد تضم إلا الشام ومصر.
وقد نجح عبد الملك بن مروان فى ضبط الأمور، والقضاء على الفتن، فانتشل
الدولة من الفوضى التى وصلت إليها، وأعاد الأمن والاستقرار إلى ربوعها.
لقد ظهر بالكوفة المختار بن عبيد الله الثقفي، وجمع من حوله شيعة على -رضى
الله عنه-، وراح يتتبع قتلة الحسين هنا وهناك وقتل منهم الكثير وعلى رأسهم
أمير الجيش الذى حارب الحسين " عمر بن سعد بن أبى وقاص"، وقتل "عبيد الله
بن زياد" أمير العراق الأموى، وشتت جيشًا قوامه (40) ألفًا، كما قتل
"الحصين ابن نمير" واستولى على الموصل، وراح يدعو لمحمد بن الحنفية ابن
الإمام على كرم الله وجهه، ويناديه بالإمام المهدى يريد المهدى المنتظر.
لقد انتشر نفوذ الشيعة فى شرق الدولة وكان هذا العامل هو المعول الذى مهد لزوال الدولة الأموية على مر الزمن!
وقد عمد الشيعة فى ذلك الوقت وعلى رأسهم المختار إلى الانتساب لمحمد بن
الحنفية، ليستفيدوا من هذه النسبة فى اكتساب مزيد من المؤيدين الناقمين
على بنى أمية والثائرين من أجل المطالبة بدم الحسين وآله.
والمعروف أن محمد بن الحنفية كان عالمًا زاهدًا، قد رفض أن يبايع لأحد من
الخليفتين ابن الزبير أو ابن مروان، وقال لا؛ حتى يبايع الناس أجمعون فإن
بايعوا بايعت. وهكذا فعل عبد الله بن عباس، ولم يكن له مطمع فى الخلافة،
أو هدم البيت الأموى أوالقضاء على ابن الزبير.
ولقد أغضب الدعوة باسم محمد بن الحنفية "عبد الله بن الزبير" فأرسل أخاه
"مصعب بن الزبير"؛ ليكون أميرًا على العراق، وأمره بالقضاء على "المختار
الثقفى".
وقد نجح مصعب فى حصار المختار بالكوفة وقتله، وأصبح الحجاز والعراق لابن الزبير ومصر والشام لعبد الملك بن مروان.
وفى سنة 70هـ /690م خرج عبد الملك بن مروان إلى العراق لأخذها من
الزبيريين، وتدور بينه وبين مصعب عدة معارك، وأخيرًا يتمكن "عبد الملك بن
مروان" من القضاء على "مصعب ابن الزبير" فى معركة "دير الجاثليق" وكان ذلك
سنة 71هـ/691م وقيل: سنة 72هـ/692م. المهم أن عبد الملك بعد مقتل "مصعب
ابن الزبير" دخل "الكوفة" معقل الزبيريين، وأخذ البيعة من أهلها لنفسه،
وولَّى ولاة من قِبله على العراق.
الحجاج وابن الزبـير:
ولم يبق إلا الحجاز يسيطر عليه عبد الله بن الزبير من مكة، وقد حانت
الساعة الفاصلة، ساعة الحزم والحسم، فأمر عبدالملك ابن مروان "الحجاج بن
يوسف الثقفى" -الذى يمكن أن يتخذ من الطائف مسقط رأسه قاعدة لعملياته
الحربية- أن يتصدى لعبد الله ابن الزبير المتحصن بمكة المكرمة.
وتحرك جيش الحجاج من الطائف إلى مكة فحاصرها كما فعل الحصين بن نمير من
قبل، وقذف ابن الزبير بالمنجنيق، وظل يضيق على ابن الزبير وأنصاره الخناق
حتى تفرق عنه معظم أنصاره، لكن ابن الزبير ظل يقاوم رافضًا أن يستسلم حتى
قتل سنة 73هـ/ 693م، وكانت خلافته تسع سنين.
وبمقتل ابن الزبير دخلت الحجاز من جديد تحت حكم بنى أمية، وكوفئ الحجاج
بأن ظل واليًا على الحجاز من قبل عبد الملك ابن مروان حتى سنة 75هـ/ 695م.
ثورات ابن الأشعث:
ولا يكاد عبد الملك بن مروان يلتقط أنفاسه ليتفرغ للبناء والتعمير،
ومواصلة الفتوح حتى يرى أن جماعات الشيعة فى مدن العراق مثل الكوفة تشكل
خطرًا على الدولة؛ بسبب قربها من بلاد فارس، التى رأى أهلها فى الشيعة خير
سبيل لتحقيق أطماعهم القومية فى ضرب الأمويين باعتبارهم ممثلين للعنصر
العربى وسلطانه فى الدولة الإسلامية، وركز الفرس نشاطهم فى سبيل وصول
أبناء الحسين بن على بن أبى طالب إلى منصب الخلافة، مدعين بأنهم من سلالة
الحسين؛ وذلك لأنه تزوج من شهر بانوه بنت يزدجرد الثالث آخر أكاسرة الفرس،
وزعموا أن تلك السلالة من أبناء الحسين تجمع بين دم عربى، وأشرف دم فارسى.
وتصدى الحجاج بن يوسف لهذه الفتنة مرة أخرى، ويحقق الأمن والاستقرار فى ربوع البلاد.
ويصدر الأمر من الخليفة الأموى بأن يتولى الحجاج أمر العراق والمشرق الإسلامى، ويسير إليها فى جيش من أهل الشام.
وكان الحجاج شديدًا عنيفًا، فراح يواجه عدة ثورات كانت إحداها بقيادة "عبد الرحمن بن الأشعث".
وتدور معارك شرسة مثل "دير الجماجم" بين الجيش الأموى وبين جيش ابن
الأشعث، يتبادل فيها الفريقان النصر والهزيمة، وتستمر سجالا بينهما فى
أكثر من ثمانين موقعة، تدور الدائرة بعدها على ابن الأشعث، فيهرب إلى بلاد
الهند. ولكن الحجاج يرسل من يلاحقه ويتابعه حتى يأتى إليه برأسه فى الكوفة.
وهكذا استطاع الحجاج إخضاع بلاد العراق وما والاها من بلاد المشرق لسلطان
عبد الملك بن مروان، وبهذا توطدت دعائم الدولة فى عهده، وانتشر الأمن فى
البلاد، ويتفرغ عبد الملك لجانب من الإصلاح الداخلى، فيصدر أمره بصك
الدنانير الإسلامية، عليها شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله
بسم الله، فكان أول من ضرب الدنانير والدراهم الإسلامية، لتحمل محل العملة
البيزنطية فيتحقق للدولة استقلالها المالى والاقتصادى.
وأصدر أمره بجعل اللغة العربية هى اللغة الرسمية التى تكتب بها الدواوين
فى أرجاء الدولة، وينفذ ابنه عبد الله بن عبدالملك بن مروان والى مصر هذه
التعليمات؛ حيث كانت مصر ما تزال تكتب باللغة القبطية، بما أدى إلى انتشار
اللغة العربية لغة القرآن والحديث، فهى بلا شك إحدى المقومات الأساسية
للدولة الإسلامية.
وسوف تظل هذا الخطوة الرائدة صفحة مضيئة يسجلها التاريخ لعبد الملك بن مروان على مر الزمان.