انتصار نور الدين على الصليبيين:
وبرغم الآلام التي عانى منها المسلمون تحت مطارق الصليب، وبحار الدماء
والحقد، عاد الإسلام-ولم يكن قد مات يومًا- يشعل صدور المسلمين، فهبوا
جنودًا لله كما كانوا، وقيض الله لهذه الأمة رجلا تركيّا هو "عماد الدين
زنكي" الذي عرف أن طريق النصر يبدأ دائمًا بالعودة إلى الله. كيف كان ذلك؟
عندما انقسمت دولة السلاجقة بعد "ملكشاه" استطاع أحد مماليكه الأتراك وهو عماد الدين زنكي أن يستقل بإقليم الموصل .
وما لبثت قوة هذا الرجل أن تضاعفت فقام بهجوم على "الرها"، وتمكن من
الاستيلاء على عاصمتها رغم مناعة أسوارها سنة 539هـ/1144م. وكان لسقوط
"الرها" في أوربا هِزة عنيفة أدت إلى الدعوة إلى حملة صليبية أخري.
ويحمل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي عبء الجهاد والدفاع عن أرض
الإسلام بعد استشهاد أبيه عماد الدين عام 1146م، على يد أحد أتباع المذهب
الإسماعيلي (المعروفون باسم الحشاشين الباطنية)، ويعيد نور الدين فتح
الرها التي سارع الصليبيون إلى احتلالها بعد استشهاد أبيه، ويعود مظفرًا
إلى حلب، ومن هناك يستعد للقاء الصليبيين، ويهزمهم بالقرب من دمشق، بل
ويهاجم بعد ذلك إمارة إنطاكية ويستولي على أجزاء منها، ويقبض على أميرها
بوهيموند وجماعة من أكابر أمراء الصليبيين، واستطاع أن يخضع باقي مدن
الرها التي لم تكن قد خضعت من قبل.
ثم توج جهوده لما دعاه أهل دمشق لحكمهم بعدما رأوا عدله وشجاعته، فتكونت
جبهة إسلامية واحدة تمتد من حلب إلى دمشق ويدعمها ملك أخيه في الموصل.
كم أنت عظيم يا نور الدين، لقد أضأت للمسلمين طريقهم؛ فعرفوا كيف يكون الجهاد والتضحية.
موقف مصر من الصليبيين:
كانت مصر في ذلك الوقت تحت سلطان الفاطميين الذين كانوا وقتذاك في أقصى
حالات الضعف، فقد كانت السلطة الفعلية في أيدي الوزراء الذين كانوا يعملون
على اختيار الخليفة من ضعفاء الفاطميين حتى يضمنوا سيطرتهم الدائمة على
مصر! وكانت مصر شديدة الأهمية للصليبيين ولدولة نور الدين. إن وقوعها في
أيدي الصليبيين يقويهم، ويمدهم بموارد لا حصر لها. ووقوعها في يد نور
الدين يضع الصليبيين في موقف حرج حيث تهاجمهم قوات المسلمين من ثلاث جهات
: الشرق، والجنوب، والجنوب الغربي، كما أن موارد نور الدين وجيوشه سوف
تعظم وتتضخم إن هو استولى على مصر، فكيف السبيل إليها؟
لقد هيأت الأقدار لنور الدين أجمل الفرص. فقد عرف أن قيادة مصر في ذلك
الوقت كانت في أيدي الوزراء، وكان أكبر المتنافسين الوزيران: "شاور"
و"ضرغام"، وقد اضطر "شاور" إلى الهروب إلى نور الدين والاستنجاد به حين
هزمه "ضرغام" وأوشك أن يفتك به. وبلغ "نور الدين" أن جيشًا من الصليبيين
كان يتجه نحو مصر ليسبقه إليها. فتحرك نور الدين على عجل، وجهز جيشًا
بقيادة "أسد الدين شيركوه" يصحبه ابن أخيه صلاح الدين، ودخل جيش نور الدين
مصر عام 560هـ/1164م، وسرعان ما انتصر على قوات "ضرغام" وأعاد "شاور" إلى
السلطة، ترى هل يقدِّر "شاور" ما قام به تجاهه نور الدين وقائد جيشه أسد
الدين شيركوه ؟ لا، بل أراد أن يتخلص من أسد الدين وجيشه عندما أحس أنهما
يقاسمانه النفوذ.
الوزير الفاطمي يستنجد بالصليبيين:
هناك تكون كارثة بكل ما في الكلمة من معني! لقد استعان شاور بجيش
الصليبيين الذي كان يرابط على الحدود، وسرعان ما استجاب جيش الصليبيين
لشاور فدخل مصر، واشتبك مع جيوش نور الدين!
واشتد القتال، ولكن لما لم ترجح كفة أحد الفريقين اتفقا على أن يرحلا معًا
عن مصر، وسرعان ما جلا جيش نور الدين وجيش الصليبيين . ولكن جيش نور الدين
عاد إلى مصر ثانية في عام 563هـ/ 1167م .
وعند ذلك أرسل "شاور" يستنجد بملك القدس المسيحي الذي أرسل جيوشه لمحاربة
أسد الدين شيركوه، ولكن شيركوه هزم الصليبيين، واستولى على الإسكندرية
التي نصَّب عليها ابن أخيه صلاح الدين الذي أظهر مواهبه الحربية في الدفاع
عن الإسكندرية. وعلى الرغم من انتصارات شيركوه المؤقتة فإنه شعر ألا سبيل
أمامه للاحتفاظ بمصر، فاتفق مع الصليبيين للمرة الثانية على جلاء الفريقين
عنها. ولكن الصليبيين نقضوا العهد حين أعدوا حملة دخلت مصر بغرض الاستيلاء
عليها، وقد استولوا على "بلبيس" وأعملوا في سكانها القتل والنهب.
انتصار شيركوه وصلاح الدين على الصليبيين:
وهنا أرسل الخليفة الفاطمي مستنجدًا بنور الدين الذي أرسل جيشه للمرة
الثالثة سنة 564هـ/1169م، يقوده شيركوه، وصلاح الدين، وسرعان ما تم النصر
على حملة الصليبيين في مصر، وانسحبت تاركة النفوذ والسيطرة لجيش شيركوه .