ويقول ابن حجر أيضًا : « وكان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن ، ولم ينكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم ، فصار إجماعًا ، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين ، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج ، وتهيأ له ذلك ، لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى ، وأول من عمل عليه المقصورة الآن » .
بيد أن السيول كانت تدخل المسجد الحرام ، وكانت هذه السيول ربما دفعت المقام عن موضعه ، وربما نحته إلى وجه الكعبة ، ومن هذه السيول سيل يقال له : سيل أم نهشل ، كان سببًا في تحرك المقام عن موضعه الذي وضعه فيه عمر رضي الله عنه . فجاء عمر وردَّه إلى مكانه الذي تحول عنه .
فقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بإسناد صحيح عن سفيان بن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه قال : « كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد قوله تعالى :
قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه ، فرده عمر إليه» .
وقد كان مقام إبراهيم محاطًا بالاهتمام من قبل الخلفاء والملوك والحكام والأمراء ، فكان أول من حلاه الخليفة المهدي سنة 160هـ ، حيث بعث بألف دينار ؛ لتضبيب المقام بالذهب .
وفي عهد أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله سنة 236هـ ، جعل ذهبًا فوق الذهب بأحسن منه عملا . وكذلك في سنة 251هـ في خلافة المتوكل . وفي سنة 256هـ من عامل مكة علي بن الحسن العباسي .
وذكر الأزرقي أن المقام في عصره كان في حوض من ساج مربع حوله رصاص مُلَبَّن به ، وعلى الحوض صفائح رصاص ملبس بها ، ومن المقام في الحوض أصبعان ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء ملبن ساج في الأرض في طرفيه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق ، ويقفل فيهما قفلان . ومثله وصف الفاكهي أيضًا .
ووصف الفاسي المقام على ما كان في عهده (في القرن التاسع) ، قال : « أما صفة الموضع المشار إليه فإنه الآن قبة عالية من خشب ثابتة قائمة على أربعة أعمدة دقاق ، حجارة منحوتة بينهما أربعة شبابيك من حديد من الجهات الأربعة ، ومن الجهة التي يدخل إلى المقام ، والقبة مما يلي المقام منقوشة مزخرفة بالذهب مما يلي السماء مبيضة بالنورة ، وأما موضع المصلى الآن فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة ، فهما عمودان عليهما القبة ، وهو متصل بها ، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب ، ومما يلي السماء مبيض منور ، وأحدث وقت صنع فيه ذلك شهر رجب سنة عشر وثمانمائة ، واسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية مكتوب فيه بسبب هذه العمارة ، واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر مكتوب في الشباك الشرقي في هذا الموضع لسبب عمارته له في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، والمقام بين الشبابيك الأربعة الحديد في قبة من حديد ثابت في الأرض برصاص مصبوب ، بحيث لا يستطاع قلع القبة الحديد التي فوقه إلا بالمعاول وشبهها » .
وقد جددت قبة المقام في سنة (900هـ) وفي سنة (915هـ ) وفي سنة (1001هـ) وفي سنة (1049هـ) وفي سنة (1072هـ) وفي سنة (1099هـ) وفي سنة (1102هـ) وفي سنة (1133هـ) .
وجرت العادة من زمن سلاطين آل عثمان من حيث قاموا بعمل كسوة الكعبة المعظمة أنهم كانوا يكسون مقام إبراهيم بكسوة سوداء مطرزة بأسلاك الفضة المموهة بالذهب على شكل ستارة باب الكعبة والحزام ، وتوضع هذه الكسوة على التابوت الخشبي الذي هو داخل الشباك الحديد فوق حجر المقام .
وبقي المقام على هيئته الأخيرة إلى سنة (1387هـ) حيث تم إزالة المقصورة التي عليه وجعله في غطاء بلوري .
ففي عهد الملك فيصل رحمه الله كانت هناك آراء بنقل مقام إبراهيم عليه السلام إلى الخلف ؛ ليحصل بذلك توسعة على الطائفين ، وكانت هناك آراء مخالفة بعدم نقله من مكانه ، فأحيلت المسألة إلى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ، الذي اتخذ في جلسته الحادية عشرة المنعقدة بتاريخ 25/12/1384هـ قرارًا ، والذي جاء في مقدمة نصه : « تفاديًا لخطر الزحام أيام موسم الحج ، وحرصًا على الأرواح البريئة التي تذهب في كل سنة تحت أقدام الطائفين ، الأمر الذي ينافي سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها ، وعدم تكليفها النفس البشرية أكثر مما في وسعها ، يقرر المجلس الموافقة على المشروع الآتي ورفعه إلى الجهات السعودية » .
وتحقيقًا للقرار هدم البناء القائم على المقام ، وجعل في غطاء مقبب من البلور الشفاف الثمين (كريستال) ؛ ليسهل من خلاله رؤية حَجَر المقام وآثار قدمي إبراهيم عليه السلام . وقد غلف الغطاء البلوري بشبكة معدنية مذهبة تحمل قبة لطيفة صغيرة وهلالاً في أعلاه . وقاعدة المقام على بناء بيضاوي من الخراسانة المسلحة مكسوة بالرخام الأسود في مترين مربعًا .
وهو المشاهد اليوم ، بحيث لم يتحول عن مكانه الذي كان فيه ، منذ عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وفي عصر يوم السبت 18 رجب 1387هـ أزاح الستار عن المقام بغطائه البلوري جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله في حفل بهيج بهذه المناسبة .
وفي عهد خـادم الحرمين الشريفين الملك فهـد بن عبد العزيز رحمه الله ، وبناء على توجهياته بالأمر السامي الكريم رقم (14318) وتاريخ 25/9/1417هـ تم الشروع في ترميم محـل مقام إبراهيم عليه السلام . وفي هذا الترميم تم استبدال الهيكل المعدني الذي كان مركبًا على مقام إبراهيم عليه السلام بهيكل آخر جديد مصنوع من نحاس ذي جودة عالية ، كما تم تركيب شبك داخلي مطلي بالذهب ، وتم استبدال كساء القاعدة الخرسانية للمقام التي كانت مصنعة من الجرانيت الأسود ورخام من وادي فاطمة بقاعدة أخرى ، مصنعة من رخام كرارة الأبيض الصافي ، والمحلى بالجرانيت الأخضر ؛ ليماثل في الشكل رخام الحِجِر ، وشكل الغطاء البلوري مثل القبة نصف الكرة، ووزنه (1.750) كجم، وارتفاعه (1.30) م ، وقطره من الأسفل (40) سم ، وسمكه (20) سم من كل الجهات ، وقطره من الخارج من أسفله (80) سم ، ومحيط دائرته من أسفله (2.51)م .
وقد أصبح محل المقام بعد هذه التحسينات انسيابيًا وقبل ذلك كان مضلعًا. وقد شملت التحسينات الهيكل والقبة والهلال إضافة إلى القاعدة الخرسانية، وقد تمت هذه الترميمات مع الحرص الشديد على عدم تحريك المقام من موقعه .