والتقى التتار مع
المسلمين ثانية عند "كابُل" وكان النصر للمسلمين، فغنموا من الغنائم ما
غنموا، وفكوا أسراهم واستنقذوهم من أيدى أعدائهم الذين لارحمة فى قلوبهم
ولا إنسانية.
وكان كل شىء يوحى بأن التتار مصيرهم إلى الانهيار، وأن المسلمين سوف يعلو
أمرهم، ويعود لهم مجدهم من جديد، لكن فتنة الغنائم والأموال قضت على وحدة
الصف، وفرقت الشمل، فنجد أميرين من أمراء الخوارزمية يختلفان على الغنائم
ويقتتلان، وتمتد اليد الآثمة، فتقتل أخا الأمير "سيف الدين"، وهو ممن
أبلوا بلاء حسنًا فى حرب التتار، ويغضب "سيف الدين" لمقتل أخيه بعد أن هزم
التتار وكاد يقضى عليهم، ويفارق الجيش، ومعه ثلاثون ألفًا، سار بهم إلى
الهند، ويحاول "جلال الدين بن خوارزم شاه" إنقاذ الموقف؛ فذهب إلى سيف
الدين، وذكره بالجهاد، وخوفه من الله، وبكى بين يديه وقبلهما، لكن ذلك لم
يؤثر فيه، ولم يجعله يتراجع.
ولما يئس "جلال الدين" وقل العدد معه، أخذ من معه من الجند وسارعوا نحو
الهند، وحاولوا عبور النهر، فلم يجدوا سفنًا، فأدركهم "جنكيز خان"، وقتل
"جلال الدين" ومن معه، ثم سار إلى خوارزم، فخربها ودمرها.
وهكذا يكون لشهوات النفس والثأر لغير الله أثر كبير فى ضياع ملك المسلمين وتخريب ديارهم.
لقد تم بذلك لجنكيز خان مملكة عظيمة واسعة مترامية الأطراف تبتدئ شرقًا من
بلاد الصين، وتنتهى غربًا إلى بلاد العراق وبحر الخزر وبلاد الروس،
وجنوبًا ببلاد الهند، وشمالا بالبحر الشمالى.
تم كل ذلك فى مدة قصيرة مما جعل المؤرخ "ابن الأثير" وقد عاصر تلك
الأحداث، يقول: "لقد جرى لهؤلاء التتار ما لم يسمع بمثله فى قديم الزمان
وحديثه، طائفة تخرج من حدود "الصين"، لاتنقضى عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى
بلاد "أرمينية" من هذه الناحية ويجاوروا العراق من ناحية "همذان"!
وتالله لا شك أن من يجىء بعدنا-إذا بَعُد العهد-، ويرى هذه الحادثة مسطورة
ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمن استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل
من جمع التاريخ فى أزماننا هذه، فى وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى
فى معرفتها العالم والجاهل لشهرتها".
فلما أحس جنكيز خان بقرب نهاية أجله راح يقسم مملكته بين أبنائه الأربعة
إلى أربعة أقسام، فقد أراد أن يملك أولاده الدنيا بأسرها، ولا يبقى فيها
لغيرهم كلمة ولا سلطان.
ولولا ما حصل بعده من الخلاف لتم كل ما توقعه، وفى سنة 624هـ/ 1227م
أدركته منيته، وكان ذلك فى عهد الخليفة العباسى المستنصر بالله وهو
المنصور بن محمد الظاهر (623هـ-640هـ).
وظهر من آل جنكيز خان أربعة بيوت، ورثت الملك، وتممت الغزو الغاشم حتى
تهيأ لها أن تملك معظم بلاد المسلمين، وجزءًا كبيرًا من أوربا، وامتد
سلطان "التتار" على الجزيرة والشام وبلاد الروم.
سقوط الخلافة العباسية:
وقعت هذه الحوادث وخليفة بغداد لاهٍ، بينما التتار يسيرون فى بلاد
المسلمين قتلا وأسرًا وتخريبًا، ثم سارت جيوش هولاكو قاصدة بغداد فى عهد
المستعصم. ففى منتصف المحرم سنة 656هـ/ 1258م، نزل بنفسه على بغداد، وأعد
عدة الحصار، ولم يكن عند الخليفة ما يدفع به ذلك السيل الجارف، واكتفى
بإقفال الأبواب، فجدَّ المغول فى القتال حتى ملكوا الأسوار بعد حصار لم
يزد على عشرة أىام. وبملك الأسوار تم لهم ملك البلد.
وهنا برزت صفحة دنيئة من الخيانة التى مثلها الوزير الشيعى الرافضى محمد
بن العلقمي، ذلك الذى كان يراسل التتار، ويرغبهم فى دخول بغداد، وكان يعمل
جهده فى تقليل قوة المسلمين بتسريح جيشهم وإهمال شأنه حتى لم يعد قادرًا
أن يقف ولو ظاهريّا أمام التتار، وكان هذا الوزير أول من خرج لاستقبال
هولاكو لما أحاط بالمدينة، ثم عاد ينصح الخليفة بالخروج لاستقبال هولاكو،
وأن يجعل للتتار نصف خراج العراق.
فخرج الخليفة ومعه العلماء والقضاة والفقهاء والأمراء، وحمل له الخليفة الذهب والحلى والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة.
أشار ابن العلقمى والرافضة على هولاكو ألا يقبل من الخليفة نصف الخراج، بل
أشار على هولاكو أن يقتله، وقد كان هولاكو رغم وثنيته وكفره يتهيب قتل
خليفة المسلمين، لكن هذا الوزير الشيعى الرافضى هون عليه أمر الخليفة
فقتله، وقتل كل العلماء والفقهاء، فعل ابن العلقمى كل ذلك طامعًا أن يزيل
السنة.
ولم يبق آمنًا من هذه المذبحة الرهيبة غير اليهود والنصارى الذين عملوا
أدلاء لجحافل التتار الكافرة، يدلونهم على من اختفى من علماء المسلمين أو
تجارهم ليذهبوا إليهم فى مخابئهم فيذبحوهم، وكان هذا هو الجزاء الذى تلقاه
المسلمون على تسامحهم العظيم مع أهل الذمة من اليهود خاصة.
وبهذا القتل كسفت شمس الخلافة العباسية بعد أن مكثت مشرقة 524 سنة.