وكان فرعون شديد البطش والظلم ببني إسرائيل فتوجه هارون وموسى
-عليهما الصلاة والسلام-إلى ربهما يدعوانه بأن ينقذهما من طغيان فرعون.
فقال لهما الله تعالى مطمئنًا ومثبتًا: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى.
فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك
بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى. إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على
من كذب وتولى)
[طه: 46-48].
فلما ذهب موسى مع أخيه هارون إلى فرعون قاما بدعوته إلى الله، وإخراج بني
إسرائيل معهم، لكن فرعون راح يستهزئ بهما، ويسخر منهما، ومما جاءا به،
وذكر موسى بأنه هو الذي رباه في قصره وظل يرعاه حتى قتل المصري وفرَّ
هاربًا، فأخبره موسى أن الله قد هداه وجعله نبيًّا، لكي يدعوه إلى عبادة
الله وطاعته، ولكن فرعون لم يستجب له، فعرض عليه موسى أن يأتي له بدليل
يبين له صدق رسالته. فطلب فرعون منه الدليل إن كان صادقًا، فألقى موسى
عصاه فتحولت إلى حية كبيرة، فخاف الناس وفزعوا من هذا الثعبان، فمد موسى
يده إليها وأخذها فعادت عصا كما كانت. ثم أدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها
فإذا هي بيضاء ناصعة البياض.
ولكن فرعون يعلن في قومه أن موسى ساحر، فأشار عليه القوم أن يجمع السحرة
من كل مكان لمواجهة موسى وسحره، على أن يكون هذا الاجتماع يوم الزينة،
وكان هذا اليوم يوم عيد فرعون وقومه، حيث يجتمع الناس جميعًا، في مكان
فسيح أمام قصر فرعون للاحتفال.
وسارع فرعون في إعلان الموعد لجميع الناس، ليشهدوا هذا اليوم، وكتب إلى كل
السحرة ليعدوا العدة لذلك اليوم.. وجاء اليوم المنتظر، وتسابق الناس إلى
ساحة المناظرة، ليروا من المنتصر؛ موسى أم السحرة؟
وقبل أن يخرج فرعون إلى موسى اجتمع مع السحرة، وأخذ يرغبهم ويعدهم ويمنيهم
بآمال عظيمة إذ ما انتصروا على موسى وأخيه وتفوقوا عليهما، وكان السحرة
يطمعون فيما عند فرعون من أجر ومكانة.
وبعد لحظات خرج فرعون ومن خلفه السحرة إلى ساحة المناظرة، ثم جلس في المكان الذي أُعد له هو وحاشيته، ووقف السحرة أمام موسى وهارون
-عليهما الصلاة والسلام-.
بعد ذلك رفع فرعون يده إيذانا ببدء المناظرة. وعرض السحرة على موسى أحد
أمرين؛ إما أن يلقي عصاه أولاً أو يلقوا عصيهم أولاً. فترك لهم موسى
البداية.
فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فسحروا أعين الناس، وتحولت جميع الحبال
والعصيان إلى حيات تسعى وتتحرك أمام أعين الحاضرين، فخاف الناس من هول ما
يرونه أمامهم، حتى موسى وهارون-عليهما السلام-أصابهما الخوف، فأوحى الله
لموسى ألا يخف ويلقي عصاه، فاطمأن موسى وأخوه لأمر الله، ثم ألقى عصاه
فتحولت إلى حية عظيمة تبتلع حبال السحرة وعصيهم. فلما رأى السحرة ذلك
علموا أنها معجزة من معجزات الله وليست سحرًا، فشرح الله صدورهم للإيمان
بالله وتصديق ما جاء به موسى فسجدوا لله الواحد الأحد، معلنين إيمانهم برب
موسى وهارون.
وهنا اشتد غيظ فرعون وأخذ يهدد السحرة، ويقول لهم: (آمنتم له قبل أن آذن
لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم ولأصلبنكم في
جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى)[طه: 71].
لكن السحرة لم يخافوا ولم يفزعوا من كلامه وتهديداته، بعد أن أدخل الله في
قلوبهم نور الحق والإيمان، فقالوا: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات
والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا
ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى. إنه من يأت
ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. ومن يأته مؤمنًا قد عمل
الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)[طه: 72-76].
فغضب فرعون غضبا شديدا، وأخذ المضللون من قومه يحرضونه على موسى وبني
إسرائيل، فأصدر فرعون أوامره لجنوده أن يقتلوا أبناء الذين آمنوا من بني
إسرائيل، ويتركوا النساء، واستطاع فرعون بهذه التهديدات أن يرهب الضعاف
والذين في قلوبهم مرض من قوم موسى، فلم يؤمنوا به خوفًا من فرعون وبطشه،
وحتى أولئك الذين آمنوا لم يسلموا تمامًا من الخوف والرهبة من فرعون.
فلما رأى موسى ما أصاب قومه من خوف وهلع، توجه إلى الله بدعاء أن ينجيه والمؤمنين من كيد فرعون.
وأخذ فرعون يفكر في حيلة للخلاص من موسى، وذات يوم جمع أعوانه وعشيرته وأعلن لهم ما توصل إليه، وهو أن يقتل موسى.
وبعد أن انتهى من كلامه إذا برجل من قومه وعشيرته قد آمن بموسى سرًّا يقول
له: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك
كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من
هو مسرف كذاب)[غافر: 28]، ثم أخذ يدعو المصريين للإيمان بالله ويحذرهم من
العذاب. فأعرض فرعون عنه ولم يستمع إلى نصيحته.
ومرت الأيام، وأخذ فرعون وأعوانه في تعذيب بني إسرائيل وتسخيرهم في العمل،
ولم يسمع لما طلبه منه موسى في أن يتركه وقومه يخرجون من مصر إلى الشام
فسلط الله عليهم أعوام جدب وفقر حيث قل ماء النيل، ونقصت الثمار، وجاع
الناس، وعجزوا أمام بلاء الله-عز وجل-، وأنزل الله بهم أنواعًا أخرى من
العذاب إضافة إلى ما هم فيه كالطوفان الذي أغرق زروعهم وديارهم، والجراد
الذي أكل ما بقي من زروعهم وأشجارهم وسلط عليهم السوس، فأكل ما اختزنوه في
صوامعهم من الحبوب والدقيق، وأرسل إليهم الضفادع، فأقلقت راحتهم، وحوَّل
مياههم التي تأتي من النيل والآبار والعيون دمًا.
كل هذه البلايا أصابت فرعون وقومه، أما موسى ومن آمن معه فلم يحدث لهم أي
شيء، فكان هذا دليلاً وبرهانًا على صدق ما جاء به موسى وأخيه هارون.
ومرت الأيام، واستمرت تلك البلايا، بل إنها كانت تزداد يومًا بعد يوم،
فذهب المصريون إلى فرعون يشيرون عليه أن يطلق سراح بني إسرائيل مقابل أن
يدعو موسى ربه أن يكشف ذلك الضر عنهم، ويشفع لهم عند ربه هذا العذاب
والضيق.
فدعا موسى ربه، حتى استجاب له، وكشف ما أصاب فرعون وقومه من عذاب وبلاء.
وزاد فرعون في عناده وكفره بالله، ولما رأى موسى إصرار فرعون على كفره
وجحوده، وتماديه في غيِّه وتكذيبه بكل الآيات التي جاء بها، رفع يديه إلى
السماء متوجهًا إلى الله متضرعًا ومتوسلاً إليه سبحانه أن يخلص بني
إسرائيل من يدي فرعون وجنوده، وأن يعذب الكفرة بالعذاب المهين.
واستجاب الله-سبحانه وتعالى-دعاء نبيه ورسوله موسى، وجاء الأمر الإلهي إلى
موسى أن يخرج مع بني إسرائيل من مصر ليلاً، ولا يخاف من العاقبة، وأخبره
أن فرعون سيتبعه، ولكن الله منجيه هو ومن آمن معه وسيغرق فرعون وجنوده.
فأخبر موسى بني إسرائيل بالخبر، وطلب منهم أن يتجهزوا للخروج معه إذا جنَّ
الليل، فأسرع قوم موسى يتجهزون للرحيل من مصر، فهي الساعة التي طال
انتظارهم بها.
وسار موسى وقومه في اتجاه البحر، وبعد ساعات طويلة كان موسى ومن معه قد
قطعوا شوطًا طويلاً على أقدامهم، ووصل خبر خروج بني إسرائيل من مصر إلى
فرعون فهاج هياجًا شديدًا، وأصدر أوامره أن يجتمع إليه في الحال جميع
جنوده.
وفي لحظات اجتمع إلى فرعون عدد كبير من الجنود والفرسان، فأخذهم وخرج بهم
يترقب أثر موسى وقومه حتى أدركهم عند شروق الشمس، وهنا تملك بني إسرائيل
الرعب والفزع من هول الموقف الذي هم فيه، فالبحر أمامهم، وفرعون وجنوده من
خلفهم، فراحوا يتخيلون ما سيوقعه فرعون بهم من ألوان العذاب والنكال،
وظنوا أن فرعون سيدركهم لا محالة.
فأخذ موسى يطمئنهم ويذكرهم بأن الله سينصرهم وينجيهم، فأمر الله موسى أن
يضرب بعصاه البحر، ففعل، فانشقَّ طريق يابس، فاندفع بنو إسرائيل فيه قبل
أن يصل فرعون وجنوده إليهم، ولما وصل فرعون ومن معه إلى الشاطئ، كان بنو
إسرائيل قد خرجوا إلى الشاطئ الآخر، ولما رأى فرعون أن الطريق الذي سلكه
بنو إسرائيل مازال موجودًا، اندفع هو الآخر بجنوده للحاق بهم، ولما وصل
فرعون وجنوده إلى منتصف البحر، تحول الطريق إلى ماء، وغرقوا جميعاً. ولما
أدرك فرعون أنه سيغرق أراد أن ينجو بحيلة فقال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)[يونس: 90].