لكن هيهات لقد نفذ أمر الله، وغرق فرعون وعاين الموت، وأيقن أنه لا نجاة
له منه، وفي هذا الوقت لا تنفع التوبة، ولا ينفع الندم، لقد بلغت الروح
الحلقوم، وجاء إيمان فرعون متأخراً فقد حضر الموت، وفات أوان التوبة.
وبعد أن لفظ فرعون أنفاسه الأخيرة، حملت الأمواج جثته، وألقتها على شاطئ
البحر ليراها المصريون، ويدركوا جميعًا أن الرجل الذي عبدوه وأطاعوه من
دون الله، لم يستطع دفع الموت عن نفسه، وأصبح عبرة لكل متكبر جبار.
وبعد أن عبر بنو إسرائيل البحر، ساروا متوجهين إلى الأرض المقدسة، وفي
الطريق رأوا قومًا يعبدون أصنامًا، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا مثل
هؤلاء الكفار، فصبر موسى عليهم وبين لهم جهلهم، وبين لهم نعم الله عليهم
التي لا تحصى، وأن الله فضلهم على خلقه، وأنه نجاهم من فرعون وجنوده، وهو
وحده المستحق للعبادة والطاعة.
وواصل موسى ومن معه المسير، وحرارة الشمس تلفح وجوههم، فذهب بنو إسرائيل
إلى موسى يشكون له ذلك، فسخر الله لهم الغمام يقف معهم إذا وقفوا، ويسير
معهم إذا ساروا، ليظلهم ويقيهم ليهيب الشمس الحارقة. ولما عطشوا أوحى الله
إلى موسى أن يضرب بعصاه التي يحملها معه الحجر، فرفع موسى عصاه وهوى بها
على حجر في الجبل وإذا بمعجزة جديدة من معجزات موسى تحدث أمام عيون بني
إسرائيل، حيث تتفجر بمجرد وقوع العصا على الحجر اثنتا عشرة عينًا، بعدد
قبائل بني إسرائيل الذين كانوا معه، مما جعل موسى يخصص لكل قبيلة عينًا
تشرب منها.
ولما جاعوا أدركتهم نعمة الله، حيث ساق لهم المن، وهو نوع من الحلوى،
والسلوى وهو نوع من الطير يشبه السمان، فأخذوا يأكلون منه، ولكنهم سرعان
ما سئموا هذا الطعام وملُّوا منه، فذهبوا إلى موسى يشكون له ذلك فقالوا:
يا موسى (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من
بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)[البقرة: 61].
فتعجب موسى، ثم أخبرهم بأن ذلك يكون في الأرض، فليذهبوا إلى مكان يزرعون فيه ويعملون حتى يتحقق لهم ما يطلبون.
وعاش بنو إسرائيل في أمان واطمئنان، وأصبحوا في حاجة إلى قانون يحتكمون
إليه، وشريعة تنظم حياتهم، فأوحى الله إلى موسى أن يخرج بمفرده إلى مكان
معين، ليعطيه الشريعة التي يتحاكم إليها بنو إسرائيل وتنظم حياتهم،
فاستخلف موسى أخاه هارون على قومه، ووعظه وذكره بالله، وحذره من المضلين
الذين يحاولون أن يفسدوا غيرهم.
ثم ذهب الجبل الذي تلقى فيه بربه عندما كان عائدًا من مدين إلى مصر، وعنده
أنزلت عليه التوراة، ولما رأى موسى إكرام ربه له، وتفضله الزائد عليه، طلب
من الله أن يمكنه من رؤيته سبحانه، ظنًا منه أن رؤية الله ممكنة في
الدنيا، فرد الله على موسى مبينًا أن الإنسان بتكوينه هذا لا يقدر على
رؤية الله-عز وجل-، وحتى يطمئن قلب موسى، فقد أخبره الله أنه سيتجلى
للجبل، وما على موسى إلا أن ينظر إلى الجبل، ويلاحظ ما سيحدث، ونظر موسى
إلى الجبل، فرآه قد اندك وتهدم.
ولقد صور لنا القرآن ذلك: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني
أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت
إليك وأنا أول المؤمنين)[الأعراف: 143].
فأخذ موسى الألواح التي فيها التوراة، وكانت تتضمن المواعظ والأحكام التي بها تنتظم حياة بني إسرائيل وتستقيم.
وحدث في بني إسرائيل بعد أن تركهم موسى أن قام رجل منهم يعرف بالسامري،
وجمع ما معهم من الحلي والذهب، وصنع لهم صنما مجوفًا على هيئة عجل إذا دخل
فيه الهواء من جانب خرج من الجانب الآخر محدثا صوتًا يشبه صوت العجل،
وأخبرهم أن هذا هو إلههم وإله موسى، فصدقه بنو إسرائيل، وعبدوا العجل
وتركوا عبادة الله الواحد الأحد، فتوجه إليهم نبي الله هارون ينصحهم
ويعظهم، وأنهم قد فتنوا بهذا الأمر، لكنهم استمروا في جهلهم، ولم ينتفعوا
بنصح هارون، بل اعترضوا عليه وكادوا أن يقتلوه، وأعلنوا له أنهم لن يتركوا
عبادة هذا العجل، حتى يرجع إليهم موسى.
ولما عاد موسى ووجد قومه على تلك الحالة، غضب منهم غضبًا شديدًا، ومن شدة
حزنه وغضبه مما فعله قومه ألقى الألواح التي فيها التوراة من يديه، وتوجه
إلى أخيه هارون وأمسك برأسه وجذبه إليه بشدة، وقال له بصوت ظهر فيه الغضب:
(يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. ألا تتبعن أفعصيت أمري)
[طه: 92-93].
فقال هارون: (يا بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين
بني إسرائيل ولم ترقب قولي)[طه: 94]، وأخبره أن القوم كادوا أن يقتلوه،
فتركه موسى وتوجه إلى السامري؛ ذلك الرجل الذي صنع هذا العجل، وسأله عن
الأمر، فأخبره السامري بما حدث، فأحرق موسى ذلك العجل حتى جعله ذرات
صغيرة، ثم رمى بتلك الذرات في البحر.
هنا أحس بنو إسرائيل بسوء صنيعهم فندموا عليه، وأعلنوا توبتهم إلى الله،
وسألوه الرحمة والمغفرة، فأوحى الله-عز وجل-إلى موسى أن هارون برئ منهم
وأنه حاول معهم كثيرًا ليبتعدوا عن عبادة العجل، فاطمأن قلب موسى إلى أن
أخاه لم يشارك في ذلك الإثم، فتوجه إلى الله تعالى مستغفرًا لنفسه ولأخيه،
قائلاً: (رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين)
[الأعراف: 151].
واختار موسى سبعين رجلاً من خيرة قومه، وذهب بهم إلى مكان حدده الله-عز
وجل-، فلما وصلوا إلى ذلك المكان، فإذا بهم يطلبون أن يروا الله جهرة،
فغضب موسى منهم غضبًا شديداً، وأنزل الله عليهم صاعقة دمرتهم، وأخذت
أرواحهم. فأخذ موسى يدعو الله ويتضرع إليه أن يرحمهم.
وشاء الله-عز وجل-ألا يخزي نبيه موسى، فاستجاب له وأحيا أولئك الذين
قتلتهم الصاعقة لعلهم يشكرون الله على نعمة إحيائهم من بعد موتهم، ورجع
موسى بهم إلى قومه فأخذ التوراة وراح يقرؤها على بني إسرائيل ويشرح لهم ما
فيها من مواعظ وأحكام، وأخذ عليهم المواثيق والعهود ليعلموا بما فيها من
غير مخالفة، فلما وعدوه أن يلتزموا بما فيها أخذهم وسار في اتجاه الأرض
المباركة وهي فلسطين، لكنهم راحوا يتنكرون للتوراة وما جاء فيها من أوامر
وأحكام، فأراد الله أن ينتقم منهم، فرفع من الجبل صخرة كبيرة وحركها حتى
صارت كأنها سحابة تظلهم، ففزعوا منها، وحسبوا أن الله سيلقيها عليهم،
فتوجهوا إلى الله بالاستغاثة والدعاء، وتابوا إلى الله لينقذهم من الهلاك،
فصرف الله عنهم تلك الصخرة رحمة منه وفضلاً.
ثم أوحى الله إلى موسى بأنه قد حان الوقت لاستقرار بني إسرائيل، ودخولهم
الأرض المقدسة (فلسطين). ففرح موسى بذلك فرحًا شديدًا. ولكن بني إسرائيل
جبناء خائفون، حيث إنهم أعلنوا ذلك لموسى فقالوا: (إن فيها قومًا جبارين
وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) [المائدة:
22].
وهنا قام رجلان مؤمنان منهم، فقالا لهم: (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه
فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)[المائدة: 23]، فما كان رد
بني إسرائيل إلا أن قالوا: (يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون)[المائدة: 24].
فاشتد غضب موسى على هؤلاء القوم الذين ينسون نعمة الله عليهم، فأخذ يدعو ربه أن يباعد بينه وبين هؤلاء الفاسقين.
فجاءه الجواب من الله عز وجل، قال تعالى: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين).[المائدة: 26]
وهكذا حكم الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض مدة أربعين سنة؛ نتيجة
اعتراضهم على أوامر الله، وعدم امتثالهم لما أمرهم به موسى، وراح بنو
إسرائيل يسيرون في الصحراء بلا هدى واستمروا في التيه حتى دخلوا الأرض
المقدسة بعد ذلك على يد يوشع بن نون بعد أن جمع شملهم..