حمزة بن عبد المطلب اسد الله وسيد الشهداء
كذا سقط أسد الله وأسد رسوله، شهيدا مجيدا..!! وكما كانت حياته مدوية، كانت موتته مدوية كذلك.. فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف يكتفون أو يقنعون، وهم الذين جندوا كل موال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمه حمزة.. لقد أمرت هند بن عتبة زوجة أبي سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة.. وعندما عاد بها إلى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه، مكافأة له على إنجاز مهمته.. ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر، وزوجة أبي سفيان قائد جيش الشرك والوثنية.. مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها، ولكن الكبد استعصت على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها، ثم علت صخرة مرتفعة، وراحت تصرخ قائلة نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي، وعمه، وبكري شفيت نفسي وقضيت نذري أزاح وحشي غليل صدري وانتهت المعركة، وامتطى المشركون إبلهم، وساقوا خيلهم قافلين إلى مكة.. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه إلى أرض المعركة لينظر شهداءها.. وهناك في بطن الوادي، وإذ هو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا الله أنفسهم، وقدموها قرابين مبرورة لربهم الكبير، وقف فجأة.. ونظر، فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه.. فما كان يتصور قط أن يهبط الخلق العربي إلى هذه الوحشية البشعة، فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد المجيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله.. وسيد الشهداء.. وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر.. وقال وعيناه على جثمان عمه: لن أصاب بمثلك أبدا.. وما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من موقفي هذا.. ثم التفت إلى أصحابه وقال: لولا أن تحزن صفية - أخت حمزة - ويكون سنة من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير.. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمتثلن بثلاثين رجلا منهم.. فصاح أصحاب الرسول: والله، لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم، مثله لم يمثلها أحد من العرب..!! ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة، يكرمه مرة أخرى بأن يجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا.. وهكذا لم يكد الرسول صلى الله علية وسلم يفرغ من إلقاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآيات الكريمة
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين.. وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.. واصبر، وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم، ولاتك في ضيق مما يمكرون.. إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون
وكان نزول هذه الآيات، في هذا الموطن، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله . . . وكان الرسول صلى الله علية وسلم يحبه أعظم الحب، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمه الحبيب فحسب.. بل كان أخاه من الرضاعة.. وتربه في الطفولة.. وصديق العمر كله.. وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم جيء بشهيد آخر، فصلى عليه الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه، وجيء بشهيد ثالث فوضع إلى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول.. وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد شهيد.. والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي على كل منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمه يومئذ سبعين صلاة . . . وينصرف الرسول من المعركة إلى بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول الرسول صلى الله علية وسلم من فرط حنانه وحبه: لكن حمزة لا بواكي له..!! ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطيب نفسا إذا بكت النساء عمه، فيسرع إلى نساء بني الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة، فيفعلن.. ولا يكاد الرسول بكاءهن حتى يخرج إليهن، ويقول: ما إلى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم.. ولقد ذهب أصحاب الرسول يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظمى.. فقال حسان بن ثابت في قصيدة طويلة له
وابك على حمزة ذي النائل
دع عنك دارا قد عفا رسمها
كالليث في غابته، الباسل
اللابس الخيل إذا أحجمت
لم يمر دون الحق الباطل
أبيض في الذروة من هاشم
شلت يدا وحشي من قاتل
مال شهيدا بين أسيافكم
وقال عبد الله بن رواحة
وما يغني البكاء ولا العويل
بكت عيني وحق لها بكاها
أحمزة ذاكم الرجل القتيل
على أسد الإله غداة قالوا
هناك وقد أصيب به الرسول
أصيب المسلمون به جميعا
وأنت الماجد البر الوصول
أبا يعلى، لك الأركان هدت
وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله علية وسلم وأخت حمزة
إلى جنة يحيا بها، سرور
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة
لحمزة يوم الحشر خير مصير
فذلك ما كنا نرجي ونرتجي
بكاء وحزنا، محضري ومسيري
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا
يذود عن الإسلام كل كفور
على أسد الله الذي كان مدرها
جزى الله خيرا من أخ ونصير
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي
على أن خير رثاء عطر ذكراه كانت كلمات الرسول له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت - ما علمت - وصولا للرحم، فعولا للخيرات
***
لقد كان مصاب النبي صلى الله علية وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا.. وكان العزاء فيه مهمة صعبة.. بيد أن الأقدار كانت تدخر لرسول الله أجمل عزاء ففي طريقه من أحد إلى داره مر علية السلام بسيدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها، وزوجها، وأخوها.. وحين أبصرت المسلمين العائدين من الغزو، سارعت نحوهم تسألهم عن أبناء المعركة.. فنعو إليها الزوج.. والأب.. والأخ.. وإذا بها تسألهم في لهفة: وماذا فعل رسول الله..؟؟ قالوا: خيرا.. هو بحمد الله كما تحبين..!! قالت: أرونيه، حتى أنظر إليه..!! ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول: كل مصيبة بعدك، أمرها يهون . . . أجل.. لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه.. ولعل الرسول صلى الله علية وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذ الفريد، فليس في دنيا البذل، والولاء، والفداء لهذا نظير.. سيدة.. ضعيفة، مسكينة، تفقد في ساعة واحدة أباها، وزوجها، وأخاها.. ثم يكون ردها على الناعي لحظة سماعها النبأ الذي يهد الجبال: وماذا فعل رسول الله..؟؟!! لقد كان مشهدا أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل منه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء.. في أسد الله، وسيد الشهداء